خواطر حول اللعب
اكتب لكم اليوم وانا اراقب منظر مجموعة من الاطفال من نافذة مكتبي ، ارى اولادا تتراوح اعمارهم بين التاسعة والحادية عشرة يمسكون 4 اعمدة خشبية ويحاولون غرسها في الارض الرملية ، اعتقد انهم يحاولون تصنيع مركزا للاهداف ، لربما يخططون لتهيئة هذه الارض للعب كرة القدم فيما بعد ، انهم يعملون بكل جدية ويتبادلون بعض الكلمات التوجيهيه مع بعضهم البعض ، بالنسبة لي فأنا اراه عملا شاقا ومتعبا ، فلماذا يجده هؤلاء الصغار شيئا اساسيا ، وهل ما يقومون به لعب ام عمل ؟
لو انكم تأملتم هذا الموقف قليلا ، ستلاحظون ان الاولاد يعملون ، ولكنهم يجدون في هذا العمل فائدة ومتعة وترفيه ، اذن هو لعب ايضا ، مما يدعونا الى الوصول الى مقولة مشهورة في عالم التربية وهي " (ان اللعب هو عمل الاطفال ) ، ويذهب هذا المعنى الى ان القيم التي يكسبها الانسان من عمله مثل تقدير الذات والاحساس بالثقة بالنفس والحصول على خبرات منوعة هو تماما ما يكتسبه الاطفال من خلال لعبهم ، فبالنسبة للبالغ يشكل "العمل" مصدر الخبرة والتطوير الذاتي بالنسبه اليه ، اما الاطفال فإن " اللعب " هو الذي يقدم لهم هذه الاشياء .
لازلت اراقب الاولاد وهم يعملون- او يلعبون لا فرق – ارى اثنان منهما يحملان حجرا ثقيلا بكل حماس ، انهما يريدان الآن تسوير ملعبهم بمجموعة من الاحجار ، هل ترون ما يمكن ان ينمو في جسمي هذان الطفلان وهما يقومان بهذه اللعبة ، عضلات تنمو هنا وهناك ، عضلات الذراعين ، الكتف ، الرجلين انواع مختلفة من التآزر بين الحواس المختلفة ( اهمها التوافق بين حاسة النظر وحركة اليد ) ، ولا تنسوا ايضا اللغة ، العمليات العقلية التي تنمو مع التفكير الدائم من اجل انجاز العمل بأحسن ما يمكن ...
الاحظ الآن ان هناك مشكلة ، بوادر شجار بين طفلين ، يريد احدهما وضع العمود ثم احاطته بالرمل ، بينما يقترح الآخر الحفر اولا ثم دفن العمود ، اسمع نقاشا حادا ، حسنا ، هل يمكنكم ملاحظة ما وراء هذا الشجار؟؟ ، ان هؤلاء الاولاد يتعلمون الكثير الآن ، كيف يقنع كل منهما الآخر بفكرته ، كيف يتعامل مع الآخرين وسلطاتهم ، كيف يتكيف مع اختلاف افكار الناس التي لن تتوافق دائما مع افكاره؟ ..
اه الآن توقف الشجار ، لقد استجاب الجميع لرؤية احدهم ، انه الزعيم ، كم ممتع ان يتاح لي فرصة ان ارى عمليا كيف يكون الطفل قائدا ، وفي صورة اخرى تابعا يتقبل ارشادات طفل آخر يماثله في العمر والاهتمام ..
اعود الى الاولاد الآن بعد ان اشرفوا على الانتهاء من لعبهم- عملهم- ينظرون الى عملهم من اليمين ، اليسار ، ثم يعدلون هنا وهناك ، احدهم يبتكر طريقة جديدة لحمل الرمل ، وفي هذا الجو من الابداع والتفاعل والحماس والنمو اسمع احدهم يتحاور مع صوت قادم من بعيد ، اه ، انها والدته ، انها تطلب منه الكف عن اللعب ( اسمعها تقول مضيعة الوقت ) والحضور الى المنزل ، اعتقد انكم تعرفون ما اريد ان اقول لها الآن : اتركيه فانه لا يضيع الوقت ، انه يتعلم الحياة..
نظرة تاريخيه :
الاطفال يلعبون منذ القدم ، العصر البدائي لم يخلو من مسألة لعب الاطفال ، وكان الاهل في ذلك العصر يعطون ابناءهم حرية اللعب ، وكانو من الحكمة بحيث ان استغلوا حب الاطفال للعب ورغبتهم فيه استغلالا عمليا ، فكانوا يشجعون صغارهم على تقليد العادات البدائية وتمثيلها وكانوا يشركون صغارهم في طقوسهم حسب قدراتهم ، مستمدين من حماس الصغار للتقليد اساسا لتعليمهم العادات والتقاليد المتوارثة ، اذن ليس مفهوم اللعب بجديد في عالم التربية ، وهناك ايضا الكثير من القصص المرتبطة بالعرب والمسلمين والتي تدلل على انه كانت هناك اهتمامات بموضوع اللعب في تلك العصور ، ولعل من يطلع على اقوال وافعال قدوتنا رسول الله عليه الصلاة والسلام يلاحظ انه قد اولى مسألة "لعب الاطفال" اهتماما كبيرا وشجع المسلمين الاوائل على الاهتمام بها ايضا ، اقرؤا معي هذه الاحاديث :
- ** عن عبدالله بن الحارث قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) يصفّ عبدالله وعبيد الله وكثيراً من بني العباس رضي الله عنهم، ثم يقول: من سبق إلي فله كذا وكذا قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم"
<< الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقترح اللعبة ويشاركهم في اللعب>>
** (( كان رسول الله (صلىالله عليه وسلم ) يصلي فجاءالحسين فركب على ظهره إذ رفع رأسه أمسكه قال نعم المطية مطيتكما)).
<< الرسول (صلى الله عليه وسلم ) يتفهم حاجة الولد للعب مع انه يصلي ثم يشجعه على الاستمرار باللعب>>- **
- (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله (صلىالله عليه وسلم ) فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله (صلىالله عليه وسلم) قد قبض بقفاي من ورائي قال فنظرت إليه وهو يضحك فقال:
يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟
قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله.<< الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يغضب على الولد نظرا لتفهمه لحاجته للعب ، ويبين للولد تقبله لحاجته بتشجيعه بتصغير اسمه>>
ونتطلع بعد هذه الاحاديث الى علماء التربية الذين كتب معظمهم في مسألة لعب الاطفال واهميته في النمو ، ولربما لا يسعنا المجال هنا لذكرهذه الآراء بالتفصيل خاصة وانها قد لا تكون مهمة لغير المختصين منكم ، ولهذا فان ما يهمنا هنا هو التأكيد على خلاصة هذه الآراء والتي تصب جميعها في نقطتين اساسيتين : الاولى : ان اللعب مهم جدا بالنسبة للاطفال لانه هناك نمو نفسي وجسمي وعقلي واجتماعي يتحقق للطفل عن طريقه ، والنقطة الثانية ان عملية اللعب تمر بمراحل متتالية بالنسبة للاطفال ، ومعرفة هذه المراحل تساعد الآباء على مساعدة الطفل في تطوير قدراته والوصول بها الى اقصى نقطة يستطيع الوصول اليها.
بالنسبة للنقطة الاولى وهي اهمية اللعب في تحقيق النمو في جوانبه المختلفة فقد حاولت ان اختصر لكم "بعض" نواحي النمو التي من الممكن ان يحققها اللعب في جزء "خواطر حول اللعب " ، اما بالنسبة للمراحل التي يمر بها لعب الاطفال فقد لاحظت بأنها ذكرت غالبا في كتب التربية بصورة مرتبطة بالعمر ، اي ان كل مرحلة من مراحل اللعب تقابلها فئة عمرية معينه من الاطفال، ومع ذلك ، فأنا ارى انه من الافضل عدم تحديد عمر ثابت لكل مرحلة ، واود منكم ان تتبعوا هذه المراحل حسب قدرات اطفالكم واختلافها ، والنقطة الاهم التي يجب ان نعرفها بالنسبة لمراحل اللعب لدى الاطفال هي ان هذه المراحل تتأتي متتالية ومتسلسلة ، ويبنى كل منها على الاخرى
مراحل اللعب :
- المرحلة الاولى :
يكون الطفل في سنواته الاولى من العمر ، يكتشف فيها نفسه وعالمه الصغير المحيط به ، لذلك فانه يلعب مع نفسه ، ويتكلم مع نفسه او مع لعبته ، ولا تتجاوز فتره لعبه دقائق معدودة لينتقل الى لعبه اخرى . خياله محدود ومرتبط بالواقع لذلك فهو يفضل الالعاب الحقيقية : الهاتف الحقيقي ، الاطباق والاكواب الحقيقية ليلعب بها .
كيف تساعد الام طفلها في هذه المرحلة:
- يحتاج الطفل ان تتاح له فرصة تكبير عالمه ومحيطه بالتدريج ، اذن يحتاج الى الذهاب الى زيارات ، ملاحظة اطفال يلعبون ، التعرف على ادوات لعب مختلفه ، اللعب في مواد طبيعيه لا تسبب ضررا ولا تحتاج قوانين خاصة في اللعب مثل اللعب في الرمل ، اللعب في الماء ، الصلصال ، تلوين مساحات كبيرة من الورق ( وليس دفاتر التلوين ذات الرسوم الصغيرة)
المرحلة الثانية :
يكبر الطفل فيزداد احتكاكه بالعالم ويتعرف على اناس آخرين ، وويعرف معلومات اكثر تفصيلا عن الاشياء في البيئة حوله ، مما يساعد على ان ينمو خياله بحصيلة من المواقف والافكار والصور الذهنية التي يرغب في تقليدها اثناء لعبه ، يمكن ان ينتبه لاطفال اخرين يلعبون بجانبه لكنه – مع ذلك يكتفي بمراقبتهم دون الاشتراك معهم فعليا في اللعب .
كيف تساعد الام طفلها في هذه المرحلة :
- يحتاج الطفل الى استمرار تعريفه بالعالم من حوله عن طريق القصص التي يبدأ في فهمها في هذه المرحلة ، والشيء الاهم هنا هو التركيز على مساعدته من الناحيه الاجتماعية ، فالطفل يحتاج الى التشجيع على التعرف على اطفال اخرين ، اللعب بجانبهم ( لعب متوازي) اي ان يلعب الطفل بلعبته الخاصة في مكان مخصص للعب الاطفال الاخرين ( يشاركهم المكان لا اللعب ) .
المرحلة الثالثة :
في هذه المرحلة يبدأ الطفل بتعلم اللغة ، ونطق الكلمات بصورة واضحة ، مما يساعده كثيرا على تكوين العلاقات مع الاخرين والاتصال بهم ، ويبدأ في تطوير نمط اللعب نفسه ، واستعمال الادوات بصورة غير اعتيادية ( مسطرة تصبح هاتف او قلم يصبح ميكرفون) ، كما يحاول تقليد شخصيات غير نمطيه كالساحر والمجنون ..الخ
كيف تساعد الام طفلها في هذه المرحلة :
يحتاج الطفل في هذه المرحلة الى المساعدة في تكوين علاقة شخصية ، على الاقل مع طفل واحد ، لان هذه العلاقة تشجع الطفل على تحويل لعبه من الشكل المتوازي الى الشكل الثنائي ، وبالطبع سيرتبط ذلك بتعليم الطفل مفاهيم وقيم اللعب المشترك كالتعاون والمشاركة في الالعاب واتخاذ الادوار وغيرها .
المرحلة الرابعة :
تتطور علاقات الطفل في هذه المرحلة وتتشعب خارج نطاق الاسرة ، ويبدأ في تقدير مشاعر الفوز والخسارة في اللعب ، ويهتم بآراء الآخرين فيه وخاصة مجموعة اللعب ، وتتطور لديه اللغة بصورة كاملة ويتعلم اساليب الاتصال وكيفية ارضاء الاخرين .
كيف تساعد الام طفلها في هذه المرحلة :
يحتاج الطفل في هذه المرحله ان يتلقى القيم والاتجاهات المرتبطة بالعلاقات مع الاخرين بصورة واضحة ، فكثيرا ما يرتبط الطفل بأصدقاء اللعب اكثر من عائلته في هذه المرحلة ، لانه يجد لديهم المتعة في اللعب والانجاز المشترك ، وقد يتأثر بأطباع هؤلاء الاصدقاء وصفاتهم ، مما يستدعي دائما ان تتدخل الام في اختيار جماعة اللعب او على الاقل تساهم في اختيارها ، يحتاج الطفل في هذه المرحلة ايضا ان يحسن التعامل مع مشاعر المنافسة في اللعب ، فيفترض ان توضح له الام اهمية تقبل الخسارة والروح الرياضية وغيرها من المفاهيم الاساسية للعب الجماعي.